ها الخَدَم قد استعدوا لمجيء سيدهم بأجمل الحُلل وأبهاها، حُلل العرس المصبوغة بدم الحَمَل الذي غلب الموت العاتي بقيامته المجيدة ليعطي الحياة لكل مَن هم في القبور، وينيرَ ظُلمة الخطيئة التي تشوّه صورةَ الله في الانسان ولا تجعله على مثال خالقه الذي رأى كلّ ما خلقه، فإذا به حسنٌ.
لكنّ الخَدَم لم يعودوا خدمًا بعد، بل أصبحوا ضيوفًا في عُرس الحمل في لحظة موتهم. موتهم؟! عفوًا، أقصدُ استشهادهم لأنهم شهدوا لربّهم حتّى لحظات حياتهم الاخيرة. عفوًا مرةً أخرى، إذ ليست الاخيرة، لانهم ما زالو يعيشونَ في قلوبنا وفي قلوب كلّ من عرفهم، فتركوا فيها أعمالهم وأقوالهم لتشهدَ لهم ولحياتهم ولاستعدادهم لمجيء سيدهم. لقد شهدوا لربّهم على الارض حتى سفك دمائهم الزكية، وما زالوا يشهدون من خلالنا، ومن خلال اولئك الذين كانوا معهم محتجزين في كنيسة سيدة النجاة في لحظات الإستشهاد تلك التي كشفت عن صراعٍ بين الخير والشر، بين المحبة والكراهية، انتهى بامتزاج دمائهم بدمِ المسيح في ذبيحةٍ فاحت منها رائحةُ أعظم محبة، محبّة من يبذلُ نفسَه في سبيل أحبّائه.
كَم من الجرحى الذين خرجوا من تلك المجزرة، ممّن تمّنوا لو أنهم لم يعودوا إلى هذا العالم، بل لو أنهم انطلقوا الى ذلك العرس السماوي، ليلتقوا بربّهم الذي يحبّهم غاية المحبّة، وحيث ينتظرهم هناك كلّ من فقدوه بسبب الشر. تمنّوا أن يتركوا هذا العالم الذي تشوّه فيه كلُّ شيءٍ جميل خلقه الله، نتيجة عدم التزام الانسان بوصية الله بالاعتناء بما أعطاه له، ولذلك بدأتُ تزدادُ الاوجاع والأحزان والدموع. بينما يعلمون أن الله في العالم الاخر سيمسحُ كلّ دمعة، هناك الفرحُ الحقيقي وأصواتُ الضَحك والطرب والتهليل ...!
لكنّهم بخرجوهم وعودتهم إلى هذا العالم، أعطوا ولا زالوا يعطون شهادةً حيّة لقيامة الرب وانتصاره على قوى الظلمة، يشهدون بأنّ الله مستعدٌ أن يحوّل كلّ شيء الى ما هو حَسَن كما خلقه في التكوين، من خلال عمله في الإنسان وعمل الانسان نفسه. فبرغم كل الالام والاوجاع سيكون هناك الفرح، برغم كلّ الشر سيكون الخير، برغم كلّ الحقد والكراهية ستكون المحبة، برغم كل الظلمة سيكون النور، برغم كل الشك سيكون الايمان ... !
هذا ما اردنا ان ننقله نحن الكهنة والاكليريكيون لدى زيارتنا لجرحى كنيسة سيدة النجاة الراقدين في مستشفى "جميلي" في روما. فهم أشخاصٌ مجروحون بالنفس والجسد، ولا يعرفون كيفَ يعبّرون عن ألمهم حتّى هذه اللحظة. فلقد مضى على الحادثة وقت قليل جدًا، ولكن الألم، الألم الحقيقي الذي يمزّق الروح، ربّما سيرافقهم لعدّة أشهر ... ولكن، حدَثَ ما هو غيرُ متوقّع: ذهبنا لنشجعهم ونواسيهم، فأعطونا هم الشجاعة والمواساة. وإليكم الأمثلة:
شابّةٌ في ربيع عمرها، أُصيبَت في المجزرة برصاصةٍ في ساقها كانت قد عبرتْ أولاً جسدَ الأب الشهيد وسيم. عندما رأيتُها، ورأيتُ ابتسامتها وصفاءها، نقصتني الشجاعة في تلك اللحظة لأسألها عن حالها. بينما أعطتني هي القوّة، وروت لي كيف نجتْ هي وأمّها فقط من أفراد عائلتها في ذلك اليوم. لا زلتُ أحتفظُ بتلك الابتسامة الرائعة في ذاكرتي، والتي أعطتني الجواب على سؤالٍ كان يراودني عن سرّ قوّتها: إيمانُها الذي لا يتزعزع هو الذي جعلها قويّة حتّى في وقت المأساة، وكذلك غفرانها لمَن قتلوا بلا رحمةٍ أخاها وزوجته وطفليهما الرضيع، قائلةً: "المسيحُ غفرَ لصالبيه، فعليّ أنا أيضًا أن أغفرَ لهم". إلا أنّها تمنّت ان تكونَ مع أعزّائها الآن في المجد السماوي. وقال آخرون الشيء ذاته، إذ فضّلوا الموتَ من جهةٍ، لأنّ ما حدثَ في الكنيسة كان مرعبًا للغاية وأكثر ممّا يمكن تحمله، ولكنّهم شكروا الله على سلامتهم من جهةٍ أخرى، ليشهدوا للحظةِ الخير والحبّ والإيمان المطلق الذين دفعوا الأب الشهيد ثائر لاحتضان الأطفال القريبين منه في محاولةٍ منه لإنقاذهم.
من بين الجرحى أيضًا، أمٌ لطفلٍ استشهدَ له من العمر ثلاث سنين يُدعى "آدم"، ولطفلةٍ لا يتجاوزُ عمرها بضعة أشهر، أُصيبَت برصاصةٍ اخترقتْ ساقَها واستقرّت في جسد والدها الذي كان بجانبها وأدّت الى استشهاده. وروت لي الأمّ كيف عهدت ابنتها إلى طبيبٍ حالما تمكنت من مغادرة الكنيسة، بينما عادت هي لتأخذَ آدم. ولم تدرك في أول الامر أن إبنها كان قد مات، لأنّها لم تسمعه يبكي في كل تلك الساعات، بل كان يصرخُ بوجه القتلة فقط ويقول: "كفى! كفى!". أمّا الطفلة فقد كان يجب ان يُحتفل في ذلك اليوم بميلادها الاول كباقي الاطفال، لكنها الان ترقد في المستشفى مع هدايا عيد ميلادها المقدمّة من القتلة: رصاصة في ساقها، ومقتل والدها الذي جعلها يتيمة، ومقتل أخيها الصغير مرشدها والمحامي عنها في حياتها. وبرغم كل ذلك، تغفرُ الأمّ لهم.
جميعُ قصصهم مأسوية، وكلّ واحدٍ منهم فقدَ شخصًا عزيزًا عليه: هناك فتاة شاهدت مقتل والدها امام عينيها ولم يبق لها سوى والدتها المسكينة، وهناك من فقدوا أمهاتهم وآخرون اخوتهم واخواتهم واقربائهم واصدقائهم، صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالاً، ومن بينهم حتّى نساءٌ حوامل وأطفالهم في أحشائهم!
هناك الكثير من الالم الذي يعصرُ قلوبهم، لكن كم هو عظيم ايمانهم! فقد غفروا لكلّ من أساءَ إليهم ومن جعلهم يفقدون أغلى وأقرب الاشخاص على قلوبهم، ومن حطموا كلّ احلامهم التي لم تكتمل مع مَن استشهد وهو الان في عرس الحمل.
هكذا كنتُ مترددًا وحائرًا ماذا سأقول للجرحى عند لقائي بهم بادئ الأمر، لكنّ العزاء والتشجيع سرعان ما أصبحا متبادلاين بيننا بطريقةٍ غير مباشرة؛ فوجودنا الى جانبهم أعطاهم القوّة للاستمرار في الحياة برغم آلامهم، ومثالهم وخبراتهم التي عاشوها بين الموت والحياة وغفرانهم للقتلة، شجعونا وأعطونا القوة للإستمرار في خدمتنا بخطواتٍ واثقة. الثقة بأنّ كنيستنا باقية وراسخة، وأن إيمانها رُويَ ولا زال يُروى بدماءِ شهدائها وبشهادة الذين لا زالوا يعيشون فيها من خلال محبتهم الصادقة، وغفرانهم لكل من يسيء اليهم. لقد رفعنا هذا اللقاء ورفعهم من الضعف البشري الى قوةٍ إلهيةٍ عظيمة، لأنّ في ضعفِنا تكمنُ قوّة الله الذي لا يتركنا أبدًا.
لكنّ الخَدَم لم يعودوا خدمًا بعد، بل أصبحوا ضيوفًا في عُرس الحمل في لحظة موتهم. موتهم؟! عفوًا، أقصدُ استشهادهم لأنهم شهدوا لربّهم حتّى لحظات حياتهم الاخيرة. عفوًا مرةً أخرى، إذ ليست الاخيرة، لانهم ما زالو يعيشونَ في قلوبنا وفي قلوب كلّ من عرفهم، فتركوا فيها أعمالهم وأقوالهم لتشهدَ لهم ولحياتهم ولاستعدادهم لمجيء سيدهم. لقد شهدوا لربّهم على الارض حتى سفك دمائهم الزكية، وما زالوا يشهدون من خلالنا، ومن خلال اولئك الذين كانوا معهم محتجزين في كنيسة سيدة النجاة في لحظات الإستشهاد تلك التي كشفت عن صراعٍ بين الخير والشر، بين المحبة والكراهية، انتهى بامتزاج دمائهم بدمِ المسيح في ذبيحةٍ فاحت منها رائحةُ أعظم محبة، محبّة من يبذلُ نفسَه في سبيل أحبّائه.
كَم من الجرحى الذين خرجوا من تلك المجزرة، ممّن تمّنوا لو أنهم لم يعودوا إلى هذا العالم، بل لو أنهم انطلقوا الى ذلك العرس السماوي، ليلتقوا بربّهم الذي يحبّهم غاية المحبّة، وحيث ينتظرهم هناك كلّ من فقدوه بسبب الشر. تمنّوا أن يتركوا هذا العالم الذي تشوّه فيه كلُّ شيءٍ جميل خلقه الله، نتيجة عدم التزام الانسان بوصية الله بالاعتناء بما أعطاه له، ولذلك بدأتُ تزدادُ الاوجاع والأحزان والدموع. بينما يعلمون أن الله في العالم الاخر سيمسحُ كلّ دمعة، هناك الفرحُ الحقيقي وأصواتُ الضَحك والطرب والتهليل ...!
لكنّهم بخرجوهم وعودتهم إلى هذا العالم، أعطوا ولا زالوا يعطون شهادةً حيّة لقيامة الرب وانتصاره على قوى الظلمة، يشهدون بأنّ الله مستعدٌ أن يحوّل كلّ شيء الى ما هو حَسَن كما خلقه في التكوين، من خلال عمله في الإنسان وعمل الانسان نفسه. فبرغم كل الالام والاوجاع سيكون هناك الفرح، برغم كلّ الشر سيكون الخير، برغم كلّ الحقد والكراهية ستكون المحبة، برغم كل الظلمة سيكون النور، برغم كل الشك سيكون الايمان ... !
هذا ما اردنا ان ننقله نحن الكهنة والاكليريكيون لدى زيارتنا لجرحى كنيسة سيدة النجاة الراقدين في مستشفى "جميلي" في روما. فهم أشخاصٌ مجروحون بالنفس والجسد، ولا يعرفون كيفَ يعبّرون عن ألمهم حتّى هذه اللحظة. فلقد مضى على الحادثة وقت قليل جدًا، ولكن الألم، الألم الحقيقي الذي يمزّق الروح، ربّما سيرافقهم لعدّة أشهر ... ولكن، حدَثَ ما هو غيرُ متوقّع: ذهبنا لنشجعهم ونواسيهم، فأعطونا هم الشجاعة والمواساة. وإليكم الأمثلة:
شابّةٌ في ربيع عمرها، أُصيبَت في المجزرة برصاصةٍ في ساقها كانت قد عبرتْ أولاً جسدَ الأب الشهيد وسيم. عندما رأيتُها، ورأيتُ ابتسامتها وصفاءها، نقصتني الشجاعة في تلك اللحظة لأسألها عن حالها. بينما أعطتني هي القوّة، وروت لي كيف نجتْ هي وأمّها فقط من أفراد عائلتها في ذلك اليوم. لا زلتُ أحتفظُ بتلك الابتسامة الرائعة في ذاكرتي، والتي أعطتني الجواب على سؤالٍ كان يراودني عن سرّ قوّتها: إيمانُها الذي لا يتزعزع هو الذي جعلها قويّة حتّى في وقت المأساة، وكذلك غفرانها لمَن قتلوا بلا رحمةٍ أخاها وزوجته وطفليهما الرضيع، قائلةً: "المسيحُ غفرَ لصالبيه، فعليّ أنا أيضًا أن أغفرَ لهم". إلا أنّها تمنّت ان تكونَ مع أعزّائها الآن في المجد السماوي. وقال آخرون الشيء ذاته، إذ فضّلوا الموتَ من جهةٍ، لأنّ ما حدثَ في الكنيسة كان مرعبًا للغاية وأكثر ممّا يمكن تحمله، ولكنّهم شكروا الله على سلامتهم من جهةٍ أخرى، ليشهدوا للحظةِ الخير والحبّ والإيمان المطلق الذين دفعوا الأب الشهيد ثائر لاحتضان الأطفال القريبين منه في محاولةٍ منه لإنقاذهم.
من بين الجرحى أيضًا، أمٌ لطفلٍ استشهدَ له من العمر ثلاث سنين يُدعى "آدم"، ولطفلةٍ لا يتجاوزُ عمرها بضعة أشهر، أُصيبَت برصاصةٍ اخترقتْ ساقَها واستقرّت في جسد والدها الذي كان بجانبها وأدّت الى استشهاده. وروت لي الأمّ كيف عهدت ابنتها إلى طبيبٍ حالما تمكنت من مغادرة الكنيسة، بينما عادت هي لتأخذَ آدم. ولم تدرك في أول الامر أن إبنها كان قد مات، لأنّها لم تسمعه يبكي في كل تلك الساعات، بل كان يصرخُ بوجه القتلة فقط ويقول: "كفى! كفى!". أمّا الطفلة فقد كان يجب ان يُحتفل في ذلك اليوم بميلادها الاول كباقي الاطفال، لكنها الان ترقد في المستشفى مع هدايا عيد ميلادها المقدمّة من القتلة: رصاصة في ساقها، ومقتل والدها الذي جعلها يتيمة، ومقتل أخيها الصغير مرشدها والمحامي عنها في حياتها. وبرغم كل ذلك، تغفرُ الأمّ لهم.
جميعُ قصصهم مأسوية، وكلّ واحدٍ منهم فقدَ شخصًا عزيزًا عليه: هناك فتاة شاهدت مقتل والدها امام عينيها ولم يبق لها سوى والدتها المسكينة، وهناك من فقدوا أمهاتهم وآخرون اخوتهم واخواتهم واقربائهم واصدقائهم، صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالاً، ومن بينهم حتّى نساءٌ حوامل وأطفالهم في أحشائهم!
هناك الكثير من الالم الذي يعصرُ قلوبهم، لكن كم هو عظيم ايمانهم! فقد غفروا لكلّ من أساءَ إليهم ومن جعلهم يفقدون أغلى وأقرب الاشخاص على قلوبهم، ومن حطموا كلّ احلامهم التي لم تكتمل مع مَن استشهد وهو الان في عرس الحمل.
هكذا كنتُ مترددًا وحائرًا ماذا سأقول للجرحى عند لقائي بهم بادئ الأمر، لكنّ العزاء والتشجيع سرعان ما أصبحا متبادلاين بيننا بطريقةٍ غير مباشرة؛ فوجودنا الى جانبهم أعطاهم القوّة للاستمرار في الحياة برغم آلامهم، ومثالهم وخبراتهم التي عاشوها بين الموت والحياة وغفرانهم للقتلة، شجعونا وأعطونا القوة للإستمرار في خدمتنا بخطواتٍ واثقة. الثقة بأنّ كنيستنا باقية وراسخة، وأن إيمانها رُويَ ولا زال يُروى بدماءِ شهدائها وبشهادة الذين لا زالوا يعيشون فيها من خلال محبتهم الصادقة، وغفرانهم لكل من يسيء اليهم. لقد رفعنا هذا اللقاء ورفعهم من الضعف البشري الى قوةٍ إلهيةٍ عظيمة، لأنّ في ضعفِنا تكمنُ قوّة الله الذي لا يتركنا أبدًا.