"La situazione sta peggiorando. Gridate con noi che i diritti umani sono calpestati da persone che parlano in nome di Dio ma che non sanno nulla di Lui che è Amore, mentre loro agiscono spinti dal rancore e dall'odio.
Gridate: Oh! Signore, abbi misericordia dell'Uomo."

Mons. Shleimun Warduni
Baghdad, 19 luglio 2014

17 dicembre 2013

البطريرك ساكو: ماذا ستخسر مجتمعاتُ الشرق الأوسط في حال هاجرها المسيحيون؟

By Aleteia.org

محاضرة في مؤتمر "المسيحية والحرية: وجهات نظر تأريخية ومعاصرة"، جامعة جورج تاون الأمريكية

 

 الوضع الحالي:

 أودّ قبل كلّ شيء أن أشكركم لاهتمامكم ورعايتكم لمسيحيي الشرق الأوسط. ونحن لا نزال نأمل أن تتقوى روابط الأخوّة والسلام في أنحاء الشرق الأوسط المنكوبة بصراعاتٍ داخلية وحروب. لكننا نعلم أن الحياة المسيحية مبنية على الرجاء، فكلماتُ يسوع: "لا تخافوا" (متى 10/ 31) تشجّعنا لنكون ونبقى علامةَ رجاءٍ لجميع الناس في الأماكن التي جعلنا الله نولدُ فيها. تبقى الحربُ واحدةً من التحديات الكبيرة في الشرق الأوسط. ونعتقد، مع الأسف، أنّ بعض السلطات تخلق التوترات وتؤزم الوضع. في العراق، بعد عشر سنوات (من سقوط النظام السابق)، لا يزالُ الأمنُ رديئًا، إذ سقط في هذه السنة فقط 6200 قتيلاً. هناك اعتداءات يومية من انفجارات، أعمال خطف وقتل، وهذا ما يحدث أيضًا في سوريا و نحو أقل في مصر. إذ أعلن بطريرك الأقباط الكاثوليك مؤخرًا أنّ الأشهر الثمانية عشر الأخيرة شهدت اعتداءات على أكثر من 100 كنيسة في مصر. وفي سوريا هوجِمَت 67 كنيسة، وترك أكثر من 45000 مسيحي البلاد وخُطِفَ أسقفان وكهنة واثنتا عشر راهبة في معلولا. إنّه عارٌ على العالم كلّه! لا زال الإسلام السياسي المتطرف ينمو في الشرق الأوسط، مما يشكّلُ ظاهرةً مقلِقة للمسيحيين. وعدة اسئلة تطرح نفسها: مَن وراءهم؟ مَن يموّلهم ويعطيهم الأسلحة؟ خلال عام 2013، ازداد الصراع الطائفي بين السنّة والشيعة بصورةٍ مأساوية. ونتيجة هذا الصراع قُتِل آلافُ الناس وهُددت وحدةُ البلاد وتدمرت البنى التحتية. وجميعهم مسلمون، والان يتحتم عليهم ايجاد توافق بينهم واعتماد حوارٍ دائم لأنّ الصراع الطائفي خسارة كبيرة للعراق. نظامُ الأمن في بلدانٍ عدّة غير فعّال وقليل الكفاءة، والحكومات بالعموم غير قادرة على فرض السيطرة على الوضع. فبعد احتلال الولايات المتحدة الامريكية الذي أسقط نظام صدام حسين، ازدادت الاضطراباتُ في العراق ودمّرته، وأخذ العنفُ الطائفي مكانَ الدكتاتورية، وأصبحت المعاناة صراعًا يوميًا لجميع العراقيين، والمسيحيون دفعوا ثمنا باهضا. من المؤكد ان المسلمين دفعوا ايضا ثمنا كبيرا لكنهم يبقون أقوياء بفضل قبائلهم وعيشهم في بلدٍ ديانته الرسمية الاسلام.
 
المسيحيون والأقليات الأخرى
لمسي يعاني المسيحيون والأقليات الأخرى من وضعٍ أمني يزدادُ سوءًا: فمنذ عام 2003 إلى اليوم، قُتِلَ أكثر من 1000 مسيحي في العراق، وآخرون خُطفوا وعُذّبوا، وأُطلِق سراح غيرهم بفديةٍ، وتمّ الاعتداء على 62 كنيسة ودير. عام 1987 تجاوز عددُ المسيحيين في العراق 1.2 مؤمن، وبقي اليوم أقلّ من النصف، ولا زال العدد يتناقص يومًا بعد يوم. أعلنت مفوضية الأمم المتحدة للاجئين مؤخرًا أن 850.000 عراقي مسيحي تركوا البلاد منذ عام 2003. لذلك من الطبيعي أن نقلق على مستقبلنا. فإضعافُ المسيحية المستمر في العراق ليس مأساة لبلادنا فحسب، بل لكل المنطقة.
 
للمسيحية جذورها العميقة في الشرق الأوسط
 تعود أصولُ المسيحية في الشرق الأوسط إلى زمن الرسل الأوائل وقد اتستخدمُ منذ البداية اللغة والثقافة السريانية. واللغة السريانية (سورث)، التي لا تزال منتشرة كثيرًا بين مسيحيي العراق، وهي قريبةٌ جدًا من آرامية يسوع والجماعة المسيحية الأولى. انتشرت المسيحية من هذه المنطقة إلى أنحاء آسيا، إلى التبت والصين، وهي تمثّلُ أوسعَ انتشارٍ للإيمان في التأريخ. والفضل يعودُ للمجهود الثقافي واللاهوتي والروحي الواسع للمرسلين المسيحيين الأولين، وعلينا أن نذكره مع نموّ المسيحية في آسيا في أيامنا. في أنطاكيا، التي كانت جزءًا من المقاطعة الرومانية في سوريا، سُمّي أتباعُ يسوع المسيح مسيحيين للمرة الأولى. كما يعودُ أصلُ الكرسي البطريركي للكنائس الخمس إلى أنطاكيا (السريان الكاثوليك، السريان الأرثوذكس، الموارنة، الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والملكيين.\
 
أسباب الاعتداء على المسيحيين
 
1-  الصراع الطائفي.
 للصراع بين الأطراف السياسية تأثير سلبي على الوضع الامني، وغالبًا ما يقع المسيحيون ضحيته، ويهدف إلى عزلهم في اقليمٍ معين. وأنا قلق جدًا تجاه المشروع السياسي الذي يريد تأسيس "منطقة مستقلة" للمسيحيين في سهل نينوى؛ فالجزءُ الأكبر من سهل نينوى محاطٌ بالعرب والكورد، وسيكون المسيحيون عندها كمنطقةٍ عازلة، مفيدة ولكن غير مؤمّنة، بين هذين الطرفين. من الأفضل، باعتقادي، العمل على تعديل الدستور لضمان الحرية الدينية والحقوق المتساوية بين المؤمنين من مختلف الأديان في كل البلاد، وبضمنهم المسيحيين الذين كانوا، إلى وقتٍ قريب، يعيشون في أنحاء العراق كافة. ووضعُ المسيحيين في سوريا مشابه لوضع أخوتهم في العراق.
 
2- . الإسلام السياسي
لدى الإسلاميين المتطرفين شوقٌ لأمةٍ واحدة، وهم يخافون أن يخسر المسلمون مبادئهم الأخلاقية بسبب الحداثة والعولمة المُصدَرتين في الغرب. إنهم يرفضون العلمانية والمجتمع متعدد الثقافات وقيم الغرب الأخرى، ويتبعون استراتيجية خاصّة لتأسيس دولةٍ إسلامية ونظام طائفي. انهم يريدون ان تنجح جهود الديمقراطية وبناء نظامٍ حديث. وتُسند معارضةُ الديمقراطية بجيوشٍ وأموالٍ تتوافد من بلدان مختلفة، لأن صورة ديمقراطية ثابتة في العراق أو سوريا أو مصر أو لبنان، تزعج اهتماماتهم واهتمامات البلدان القريبة، والحربُ السورية مثالٌ لهذه المشكلة. لهذه الأسباب، يزداد وضعُ الحرية الدينية سوءًا، سواء في العراق أو في سوريا، مما يثير قلقًا حقيقيًا. واصبح أناسٌ عديدون من مجاميع دينية مختلفة عرضةً للاستهداف بسبب هويتهم الدينية أو ميولهم العلمانية.
 
3- الإجرام المنظم. 
تهدف العمليات الإجرامية إلى الحصول على النقود، والمسيحيون هدفٌ سهل لهذه العمليات لأن ليس لهم ميليشيات أو قبائل تدافع عنهم. ولأن الحكومة غير قادرة على حكم سيطرتها على البلاد، فعانى المسيحيون كثيرًا.
 
موقف الغرب
 لا يفهم الغرب صعوبات ومخاوف المسيحيين في بلدان الشرق الأوسط. فالتطرف الديني ينمو وأصبح عدوانيًا جدًا، والعنف الديني بدأ يزداد هو الآخر ويدمر الجماعات والعلاقات بين اناس من تقاليد دينية مختلفة في الشرق الأوسط، مما يضرّ بنسيجه المجتمعي. يريد المتطرفون الإسلاميون استغلال الوضع الحالي (الفوضى في مناطق مختلفة) بهدف إلغاء الوجود المسيحي في الشرق الأوسط وكأنه عائق أمام مخططاتهم. وهناك بلدان لا تريد ما نسمّيه ديمقراطية "الربيع العربي" لأن الحرية، بالنسبة لهم، خطرة. على المجتمع الدولي أن يفتح عينيه ليرى مخاوف وآمال المسيحيين والأقليات في العراق وسوريا ومصر. يتساءل معظم المسيحيين: أي ضمان لنا بألاّ نُقتل أو نُطرد من بلداننا الآن أو فيما بعد؟ كيف نؤمن بمستقبل أفضل؟ هذه هي التحديات والمسائل الحاسمة. بعض بلدان الغرب، ومع الأسف، تشجّع هجرة المسيحيين. هناك كلّ شهر عوائل عدّة، يعيشون في حالةٍ اقتصادية جيدة، يتركون البلاد إلى الأبد ( يقال ان ما يقارب 10 أشخاص يتركون يوميا). الشباب المسيحي، وخاصّةً المثقف منهم، يتركون العراق. وهذه خسارة كبيرة لمن بقي وللثقافة والمجتمع العراقي. نأمل في خطوات أكثر إيجابية من جانب الغرب تغيّر الوضع نحو الأفضل وتزيد رفاهية الشعب العراقي وبقية شعوب الشرق الأوسط. نأمل بحرارة الوصولَ إلى وسيلةٍ متناغمة للعيش معًا، وتأسيس معيارٍ للمواطنة يسمح للجميع بأن يأخذ مكانه في المجتمع، بغض النظر عن الدين أو القومية، ويُبنى على فكرة أن جميع الناس خُلِقوا متساوين. نحتاج إلى وسيلة تساعد المسلمين في مصالحة الإسلام مع المواطنة المبنية على المساواة الكاملة. وستكون العلمانية الإيجابية التي تحترم الدين والتعاون بين القادة الدينيين والسياسيين، أفضلَ طريقة. فعلى الغرب أن يساعد بلداننا في احترام حقوق الإنسان كما هي محترمة عندهم. يجدر التأكيد أنّ ملايين المسيحيين السريان: الملبار والملنكار، عاشوا في الهند منذ القرون الأولى للمسيحية. هؤلاء المسيحيون مرتبطون بالمسيحيين العراقيين بالإيمان والشركة الكنسية والطقوس، ويساهمون بصورةٍ ملحوظة في حياة الهند هذا البلد الواسع والكثيف بالسكان ويحتضن أديانًا عدّة من اجل بناء نظامٍ ديمقراطي ودستور علماني يساعد على اشاعة الحرية الدينية وتقوية العلاقات بين الأغلبية الهندوسية والأقليات المسلمة والمسيحية. في العراق، من الضروري أن تسند الحكومة والشرطة والجيش والقبائل وجميع المؤسسات، القانونَ وأن يحافظوا على النظام بين جميع المواطنين، وأن يركز النظام التعليمي على الوحدة الوطنية ويلغي من البرامج الدراسية والكتب والمؤسسات الدينية، التعابيرَ التي تثير الكراهية والعنف والتهميش من قبل مجموعة دينية معينة تجاه مجاميع أخرى. ما نرجوه باختصار هو أن يتغير الوضع ويعود الأمن.
 
الإسهام التأريخي للمسيحيين في الثقافة الإسلامية
 في فلسطين، سوريا، لبنان، العراق ومصر كان المسيحيون غالبية قبل مجيء الإسلام بكثير وكانوا منظّمين جدًا. وفي زمن الفتح العربي، كان "أهلُ الكتاب" (اليهود والمسيحيون) في دار الإسلام يُعاملون بتسامح كأقلياتٍ دينية تحظى بحماية الإسلام، ويُعترف بهم كمؤمنين بالله على الرغم من رفضهم الإيمان بالنبي محمد. ولم يكن الذكور الناضجون ملزمين على الاهتداء إلى الإسلام، على الرغم من وجود هذا الخيار امامهم، ولكن كان عليهم دفع الجزية كثمنٍ مقابل هذه الحماية. بالإضافة إلى هذا، كانت تفرض احيانا على المسيحيين بعضُ الشروط كملابس خاصّة تميزهم. وفي القرن الثاني من الإسلام أصبحت الشرائع متشددة أكثر. وكانت الفترة الأولى من الحكم الأموي متسمة بموقفٍ منفتح ومتسامح نحو المسيحيين. وقد تكون إحدى الأسباب الرئيسية هي حاجة المسلمين إلى معرفة الأمور الإدارية والاقتصادية من المسيحيين واستلهام خبرتهم في الحكم وتنظيم الأراضي التي كانوا يأخذونها. كان القديس يوحنا الدمشقي، على سبيل المثال، واحدًا من أوائل اللاهوتيين المسيحيين المؤثرين. إذ خدم هو وأبوه كمديرين في الخلافة الأموية. و يوحنا قديس في الكنيسة الكاثوليكية، درس الحساب، الهندسة، اللاهوت، الموسيقى وعلم الفلك، وفي عام 1883 أعلنته الكنيسة بشخص البابا ليون الثالث عشر معلمًا للكنيسة. يُلاحظ في موقف المسلمين تجاه المسيحيين تناقض معين لأسباب اجتماعية وسياسية؛ إذ كان المسلمون أحيانًا منفتحين ومتسامحين، وفي أحيانٍ أخرى متشددين. يُبررُ هذا الموقف من قراءة بعض الآيات القرآنية. لكن الخلافة العباسية افتتحت فترة تبادلٍ ثقافي واسع وخصب نتيجة لانتشار اللغة العربية. وبتكليف من الخلفاء في بيت الحكمة، تعهد المسيحيون، خاصّة أولئك الذين من أصول سريانية، بعملٍ ضخم من الترجمة من اليونانية إلى السريانية والعربية، وخاصّةً في مجال العلم والفلسفة والطب. وبهذه الطريقة أصبحت معارفُ العالم اليوناني الروماني متوفرةً كجزءٍ أساسي من الثقافة العربية الإسلامية. ووسّع نقلُ الأعمال الكبرى إلى الحضارة الإسلامية المجالات الفكرية في العالم الإسلامي، كما ساهم بصورةٍ ملحوظة في ازدهار الفكر السياسي والديني في الغرب. ويستمر مسيحيو الشرق الأوسط في البحث عن هذا الدور اليوم عاملين كجسرٍ للحوار البنّاء والضروري بين الغرب والإسلام. ولم يكن رجال الدين أصحاب الأدب فحسب، بل أيضًا العلمانيون المثقفون والأطباء. من بينهم الشهير بختيشوع، الطبيب المسيحي في مدرسة الطب في جنديشابور، الذي كان يخدم ويعالج الخلفاء وعائلاتهم. كان هؤلاء المؤلفون لاهوتيين في الوقت ذاته. وكان العرب يستخدمون مصطلح "علم الكلام" عن الله (اللاهوت). وهناك نصوص بالسريانية مخصصة للاستخدام الداخلي للمسيحيين، لتثقيفهم في مبادئ الإيمان ومساعدتهم في الإجابة عن بعض الأسئلة والاعتراضات التي يتقدم بها المسلمون. وهناك نصوص مكتوبة بالعربية، بعضها ذات طبيعة دفاعية وأخرى جدلية، كانوا من خلالها يعرضون العقائد والأخلاق المسيحية للمسلمين. هناك اليوم مسلمون كثيرون لا يعرفون شيئًا عن تأريخ المسيحيين في تنشئتهم الدينية والفكرية واسهامهم في بناء الحضارة الإسلامية. بينما أصبح ضروريًا أن يُعرّف أكثر بهذه العلاقات التاريخية الإيجابية بين المسيحيين والمسلمين وأن تُدرك أهميتها للإسلام بصورةٍ أفضل. في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بعد أن ساهموا في تطوير الحضارة العربية والفارسية، عاش المسيحيون والمسلمون في عالمٍ ثقافي مشترك تقاسموا فيه القيم والثمار. وخلال الفترة العثمانية، دار جوهرُ النقاش حول تطبيق نظام الملة (مجموعة قومية أو دينية غير مسلمة) كمصطلحٍ جديد تُعرف به حالة الجماعات الدينية غير المسلمة. وكان للملة تأثيرًا عميقًا في هوية الجماعات المسيحية المختلفة وتركت أثرًا لا يُمحى في عقول الناس والمؤسسات. ولا تفهم مشاكل عديدة يواجهها المسيحيون في العالم الإسلامي اليوم من دون الأخذ بالاعتبار خبرة نظام الملل التي بقيت بطريقةٍ أو بأخرى في الدول الحديثة ذات الأغلبية المسلمة. مع ذلك يبقى تأثيره غامضًا ويحتاج إلى مزيد من البحوث. وبالنسبة لمسألة العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في زمننا، لابدّ من الاستفادة من خبرة الماضي وخبرة الجماعات المسيحية في العراق، سوريا، لبنان والهند الذين طوروا صيغة لقاء مع أقربائهم المسلمين في مجال الحوار والشهادة المسيحية والتعايش والتعاون. نأمل أن يساعد هذا التقليد الطويل المسيحيين في الحفاظ على هذا الإرث الغني والاستمرار بالمساهمة في حضاراتهم. لا يجب أن ننسى بأنّ المسيحية (السريانية) هي الركن الرابع من التقليد المسيحي الأول إلى جانب العبرية واللاتينية واليونانية. المسيحية المشرقية عاملٌ حيوي لرفاهية الدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط. وهي إلى جانب الحضارات المسيحية المعاصرة الاخرى في الشرق الأوسط تضفي على المنطقة طابع التعددية والتنوع. وخسارة المسيحية في الشرق الأوسط سوف تحدث تغييرًا جذريًا في معالم الحضارة والمجتمع في بلدان مثل العراق، سوريا ومصر، وتمثل ضربةً قاسية لأي رجاءٍ في التعددية والديمقراطية. عندما ترك اليهود جزءًا كبيرًا من منطقة الشرق الأوسط في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، تغيرت بصورةٍ جذرية العلاقة بينهم وبين المسلمين. وهذا يصحّ أيضًا بالنسبة للعلاقات بين المسيحيين والإسلام. فهجرة المسيحيين من الشرق الأوسط، كتلك التي تحدث الآن، لها تأثير ذات أبعاد تأريخية في العلاقات الإسلامية المسيحية. وباختصار، المسيحيون جزءٌ مكمّل للنسيج الوطني العربي. ساهم المسيحيون في تحقيق الحضارة العربية الإسلامية إلى جانب إخوتهم المسلمين. ولابدّ أن يكون من صلب اهتمام المنطقة والغرب والجماعة الدولية بكليتها، أن يبقى المسيحيون في الشرق الأوسط كمواطنين يتمتعون بمساواةٍ كاملة أمام القانون وقادرين بالتالي على الاستمرار في المساهمة في حضارات بلدانهم.
 
كيف يستطيع المسيحيون والمسلمون أن يعيشوا سويةً بسلام؟
 دور الجماعات الدينية:
تملك السلطات الدينية دورًا فريدًا لا بديل له في وحدة المجتمع. ومن الضرورة بمكان أن تعمل المجاميع الدينية سويةً على تنمية ثقافة الحوار والسلام و الاعتراف بالآخر المختلف بطريقةٍ ملموسة، لأن "الله خلقنا مختلفين". علينا الوصول إلى توافقٍ واسع واحترامٍ لكرامة الإنسان ولقيم المواطنة والتعايش. وعلى الحديث الديني أن يدافع عن حقوق جميع الناس وعن قدسية كلّ حياة. من غير المقبول أن يقوم إمامٌ بدعوة مؤمنيه الا يسلّموا على غير المسلمين. على هذا الفكر ان يتغيير!
 
الحكومة:
تحتاج الحكومة العراقية، بأطرافها كافة، كما في بلدانٍ أخرى، أن تتوحد وتتعاون بطريقةٍ إيجابية لضمان الأمن ورعاية الحرية الدينية والتنوع العرقي، بالإضافة إلى تعزيز المصالحة والتلاحم الاجتماعي بين جميع العراقيين. لابدّ لـ "ثقافة السلام" أن تكون ثقافة "الرعاية المتبادلة". على جميع المواطنين تبادل الأفكار والمقترحات حول المبادرات الواقعية الواجب تحقيقها لتقوية الحوار وبناء الثقة وتعزيز قيم الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان والمواطنة والعيش المشترك وقيم الحرية الدينية والديمقراطية.
 
الدور المسيحي:
من جانبهم، على المسيحيين في الشرق الأوسط أن يبقوا في بلدهم الأصلي ويحافظوا على وجودهم التأريخي ولا يهربوا إلى الغرب. عليهم أن يتشجعوا بكفاية ليكملوا شهادتهم في بلدانهم. كما عليهم أن يبذلوا جهدهم لتكون صعوباتهم ومعاناتهم علامة رجاء وسلام لأخوتهم في الوطن. على جميع البلدان أن يشجعوا المسيحيين في الشرق الأوسط على الاشتراك بفعالية في الثقافة والعمل الاجتماعي والسياسي في بلدانهم، دون الخوف من المطالبة بحقوقهم المدنية ومساواتهم في المواطنة. أكّد البابا فرنسيس هذا الهدف المهم في لقائه بالفاتيكان، يوم 21 تشرين الثاني الماضي، مع رؤساء كنائس الشرق الأوسط، عندما قال إنّ الكنيسة الكاثوليكية "لا تقبل" شرقًا أوسط بلا مسيحيين "يُجبرون غالبًا على الهروب من مناطق الصراع والنزاع في المنطقة". ولهذا أكرر أن الوقت حان للعبور من التسامح إلى الحرية الدينية والمواطنة الكاملة. وفي هذا الصدد أريد أن استشهد بقول البابا الفخري بندكتس السادس عشر في إرشاده الرسولي "الكنيسة في الشرق الأوسط": "التسامح الديني موجود في العديد من الدول، لكنه لا يؤدي إلى نتيجة ملموسة لأنه يبقى محدودًا في نطاق تطبيقه. من الأهمية بمكان الانتقالُ من التسامح الديني إلى الحرية الدينية. هذا الانتقال لن يتسبب في النسبوية، كما يؤكد بعضهم. فهذه الخطوة الواجبة ليست تصدعًا في المعتقد، لكنها إعادةُ نظرٍ في العلاقة الأنتروبولوجية مع الدين والله. ليست تعدِّيًا على "الحقائق المؤسسة" للمُعتقد، لأنه، على الرغم من الاختلافات البشريّة والدّينيّة، ثمة بصيصٌ من الحقيقة يُنير جميع البشر. نعلم جيدًا أن الحقيقة خارج الله غيرُ موجودةٍ "بحدّ ذاتها" لأنها تصبح صَنَمًا. فالحقيقة لا يمكن لها أن تنمو إلا في العلاقة مع الآخر، الذي يقودنا إلى الآخر (الله). والذي بدوره أن يعرِّفنا على غنى غَيريتيه من خلال أخوتي البشر وفيهم". علينا، نحن المسيحيين، إيجاد الأجوبة عن أسئلة المسلمين كما فعل آباؤنا خلال فترة الأمويين والعباسيين. هذا قد يساعد الكنيسة في البحث عن منهجية جديدة ولغةٍ لاهوتية جديدة ومفهومة بالعربية لمساعدة المسيحيين والمسلمين في فهم إيماننا وأهمية الحرية الدينية لكل إنسان وكل مجتمع. اقترح أن تُصدر الكنيسة وثيقةً جديدة موجّهة للمسلمين حصريًا. ومن المهم فيها توضيح مخاوفنا وآمالنا معهم. ومن بين الأمور الأخرى، على هذه الوثيقة أن تشرح، بلغةٍ تتوافق مع الإسلام، عقيدة الحرية الدينية الرائعة كما جاءت في وثيقة "الكرامة الإنسانية"، إعلان حول الحرية الدينية الذي أصدره المجمع الفاتيكاني الثاني. ومن الطبيعي أن تكتسب الأصواتُ المعتدلة في الإسلام أهمية أساسية، وأن ترتفع حالاً لتقول "كلا" بوجه العنف ضدّ المسيحيين. حان الأوان للمسلمين المعتدلين، الذين يشكّلون الأغلبية، ليعززوا التعايش المدني والحرية الدينية في مجتمعاتهم. عليهم أن يبرزوا للعالم الحقيقة وهي أن الإسلام ليس دين الإرهاب وقتل المدنيين الأبرياء. فأغلبية الشعب المسلم طيب وغير عنيف، وهم لا يوافقون على التطرف، ولكنهم في الوقت ذاته يخافون من ردة فعل علنية. باختصار أدعو أصدقاءنا المسلمين في الشرق الأوسط ليقوموا بعمل مشترك من أجل "كلمة سواء".
 
ختام: 
ماذا ستخسر مجتمعات الشرق الأوسط إذا هرب المسيحيون إن هجرة المسيحيين خسارة كبيرة وتأريخية للمسلمين. إذا هرب المسيحيون من الشرق الأوسط سيأخذون معهم انفتاحهم الفكري وثقافتهم ومهاراتهم وجهودهم في سبيل الحرية الدينية. من الضروري للمسيحيين والمسلمين العمل سوية لرسم صيغة مستقبل لمجتمعاتهم وبلدانهم في وسط التغييرات السياسية التي تهزّ المنطقة. عليهم أن يبنوا تدريجيًا نموذجًا جديدًا للمجتمع في الشرق الأوسط. إن التغييرات واسعة وسريعة للغاية، وعلى المسلمين والمسيحيين مواجهتها سوية بشجاعة ورجاء. المسيحيون مهمون في الشرق الأوسط بفضل ثقافتهم ومستوياتهم العالية من التعليم، روح التعاون التي لديهم ومؤسساتهم مثل المدارس، المستشفيات، دور الأيتام، دور المسنين والفقراء، بالإضافة إلى خبرتهم الاقتصادية والمشاريع الصغيرة التي يديرونها. يقدّر مسلمون عديدون وجودهم وإسهامهم، ويفهم كثيرون منهم أن المسيحيين ضمان لمستقبل أفضل للمسلمين. من جهةٍ أخرى، تمثّل محاولات قمع المسيحيين أو دفعهم للهروب من أراضيهم الأصلية في الشرق الأوسط حيث عاشوا لقرونٍ طويلة، جريمةً نكراء بحقهم وضربة ضدّ الوحدة الوطنية. فشرقٌ أوسط من دون مسيحيين يخسر حتمًا صورته الجميلة متعددة الهويات. ونحن المسيحيين نحاول البقاء في أوطاننا، وتربينا على المحبة والمسلامة الا ان المسيحيين تربوا على العيش في الحرية والسلام، وحيث لا توجد حرية وسلام يهربون بحثًا عن ملجأ ليربوا أولادهم ويعيشوا إيمانهم بحرية. يشعر الذين بقوا الآن بالضعف، فإذا كنّا معزولين فلن نقدر على فعل شيء. ولكن عندما نتوحد، سنكون كنيسة قوية وسيكون لنا تأثير في المجتمع. عاش مسيحيو الشرق الأوسط مدةً طويلة مع أنواعٍ مختلفة من الاضطهادات، لذللك يتطلب الاستقرار والديمقراطية وقتًا وتربية، والفصل بين السياسة والدين في هذا الصدد، مهمٌ للغاية. لا يمكن للديمقراطية أن تعمل إذا لم يتجدد الإسلام. علينا العمل سوية لتأسيس دولة مدنية يكون فيها المعيار الوحيد المواطنة المبنية على المساواة الكاملة أمام القانون. على القادة المسلمين أن يشتركوا في الحوار لبناء مجتمع متعدد الثقافات والأديان، ويقللوا النزاع بين الأديان والصراعات لبناء تعايش حقيقي. الأحاديث الطائفية والاستفزازية لا تساعد في تطوير الإنسانية لا بل تتناقض مع الرسالة الدينية الشاملة: "السلام على الأرض". ولأننا مخلوقين جميعًا من الله، فكل واحد منا يحمل إرثًا يربطنا بعمق مع الآخر. بلدان الشرق الأوسط بحاجة إلى نموذج ثقافي واجتماعي يعزز الوحدة من خلال التعددية والحرية الدينية والتعايش المتناغم بين المجاميع الدينية والعرقية المختلفة. الانغلاقُ علامة موت، والانفتاح علامة نمو وتكامل. على الأديان أن تتصرف بإيجابية وتوجّه الناس ليضعوا حدًا لجوّ الكراهية. وفي الختام اسمحوا لي أن أعطي بعض التوصيات: على الجماعة الدولية تكثيف الجهود لمساعدة البلدان ذات الغالبية المسلمة في الشرق الأوسط لتحديث النظرة عن الاخر والحرية الدينية. وكجزء من هذه الجهود إقناعهم بأنّ قمعهم واضطهادهم للجماعات المسيحية ذات الأقلية لا تضرّ المسيحيين فحسب، بل المجتمعات ذاتها. على الجميع العمل لإيقاف الهجرة القاتلة للمجتمع المسيحي في الشرق الأوسط بأكمله.
 
ترجمة: الأب ألبير هشام / مسؤول إعلام البطريركية الكلدانية